تنور طين ..رغيف خبز حار.. واقراص نارية تشتعل كما حرارة الجو في مدينتي لا يخففها الا العيش على الماء ....سمك مسكوف ولبن رائب وقيمر صباحي,وبيوت من البردي تتناثر هنا وهناك ,ورؤوس جاموس بلون الليل تطفو فوق سطح الماء
امور لم تكن حياة المدينة تثيرها في نفسها كما تثيرها تلك المناظرالجميلة التي عاشتها ابان صغرها ,كان جل ما تفكر فيه هو ان تتعلم من المدينة التي تعرفت على معالمها القراءة والكتابة من اجل مستقبل ابنائها بعد ان وضعت الحرب العراقية الايرانية اوزارها وجففت الاهوار من مياهها وانتقلت مع عائلتها من الهور الى المدينة , وعلى الرغم من انها لم تستطيع ان تكيف نفسها للعيش داخل المدينة الا انها مرغمة على مجارات ما تراه
لذا ورغم كل ذلك اصرت ام غنيدة على زوجها ان تعود الى حياتها الاولى
المشاحيف والرحلة الصباحية قبل بزوغ الفجر اضفت على حياتها جمالية لم تعد تستطيع ابدالها بما وفرته المدينة لها من مستلزمات
كانت رحلة العودة شاقة بالنسبة للعائلة لكنها في نظرها كانت تستحق المجازفة فيها . فهي وان بدت متعبة الا انها تعتبرها ولادة جديدة لحياتها .
اليوم هو الاول من حياتها في الهور . لا بد ان تكون قريبة من المناطق التي عادت اليها الحياة لتعود بذاكرتها الى ايام الصبا , فهي ابنة الهور والفالة والمكوار التي لم ترهبها سني الحرب باهوالها واصوات مدافعها وازيز طائراتها واطلاقات رصاصها ..ولم تشعر يوما برهبة الظلام وستره وهي تطر بمشحوفها هامات القصب والبردي لتبتل اقدامها بالماء والطين
هكذا وبيديها الرقيقتين امسكت بعصا المقود الذي دفعت به مشحوفها في رحلة الصباح الى اعماق الهور بعد ان امنت حياة وليدها وسط القارب لينام نومة هانئة
طافت بجديلتيها الطويلتين اللتان لامستا ركبتيها خارج حجابها الاسود وهي تردد اغنيتها الجميلة (تسوة هلي وكل الكرابه يعنيد ييابه...)
احست ان لعشقها الماء والهواء واصوات الطيور حلاوة لا تعدلها حياة المدينة وهمومها
امسكت بمنجلها وهي تسمع حفيف مشحوفها بعالي الفصب المترامي على الماء غنجا وراحت تقص سيقان البردي المتكاثف حولها بخفة ورشاقة تعودتها منذ نعومة اظفارها , وقبيل انبثاق نور الفجر كان مشحوفها يمتليء بما جادت به الارض , ما عليها الا ان تعود من حيث اتت , فهناك من ينتظر عودتها بفارغ الصبر , الزوج والاطفال واعداد الطعام ,نظرت بعينيها الى الجاموس الاسود الذي غمر نفسه بين صويحباته في عمق الماء وراحت دموعها تتصبب حسرة على عجلها الاسود الذي اصابته رصاصة طائشة اطلقتها رشاشة عناد ابان الحرب ثم راحت تحدث نفسها
(كون عناد ميت والعجل ظال
يكابلني يدادة وياكل نخال)
حسرة ما بعدها حسرة لكنها استطاعت ان تعوضها اليوم غير مبالية بما مضى
انها حياة احبتها ولم تجد دونها بديلا يناسبها
لم تكن تحلم الا ان يكون غنيد بين اقرانه يتعلم مايردده الاخرون من اقرانه في المدينة (نار ,, نور ..سطع النور من التنور )حياة طرزتها البهجة بمياه الهور.
المترجم ازهر الحمداني