نعيم عبد مهلهل
(( وكلما توغل الانسان عميقاً في الأهوار، تصبح الممرات المائية الوسيلة الوحيدة للانتقال. وتؤلف هذه الشبكة هنا وهناك متاهة حقيقية، وتروى الكثير من القصص عن تيه أغراب لأيام في هذه المتاهة، فالقصب مرتفع ومتين، بحيث تنحجب الرؤية وتحك صفوف القصب الكثيفة جوانب قوارب الأهوار الرشيقة المرتفعة القيادم والكواثل التي تحرك بالتجذيف وتدفع بالمردي وهو عصا طويلة من خيزران سميك)) المستشرقة البريطانية الليدي دوروا
الأمكنة في علم الجمال هي نقطة الشروع بأكتشاف الهاجس وهي كما يراها المفكر الفرنسي ( غاستون باشلار ) . فيض من الأحاسيس نتخيل فيه ماكان وسيكون .
والأمكنة هي نقاط لدلالية كونية تبدأ من لحظة الحياة وتشيد عليها الممكن الذي يتشكل فيه الكيان ( الوطن ، البيت ، الحانة ، المدرسة ، المعبد إلى ما شاء للمكان أن يتمثل ويتكون بعمارة أو هاجس ما ) ..تقرأ الأمكنة من خلال خصائصها الحياتية والبيئية وتشكل التضاريس رؤية مهمة في فهم المكان وهي من تستطيع أن تمنح أهل المكان خصوصية بناء الحياة ومزاولة ما يمكن أن يأتي ملائما مع تلك التضاريس وتلك البيئة وعليه فأن تلك البيئات تكاد تكون ولادة طبيعية للمؤثر التضاريسي كما في الحياة الجبلية والصحراوية والقطبية .
والأهوار التي هي واحدة من بيئات الأرض وأمكنتها المتميزة ولدت منذ أزل سحيق نتاج التغيرات الجيولوجية العظمى التي تعرض لها كوكب الأرض منذ ملايين السنين ولأننا عرفنا وقرأنا الكثير من الفرضيات والنظريات التي تحدثت عن اصل الأمكنة وولادتها فأننا في سياقات العلم والتاريخ ندرك أن الأهوار تتكون من فيضانات الأنهر عندما تكون طبيعتها الجيولوجية في منخفض ارضي كما يحدث مع اهوار بلاد الرافدين وهي جزء من السهل الرسوبي العراقي والواقع بين مجري دجلة والفرات اللذان يفيضان في أشهر الربيع نتاج كثرة المياه المتفقة فيهما جراء ذوبان الثلوج من المناطق الجبلية اللتان ينبعان منها أو يمران بها وهما أصلا يأتيان من مناطق مرتفعة في جنوب بلاد الأناضول ( تركية اليوم ) .. وعبر مئات القرون ظل المكان يتميز بطبيعة خاصة ومتميزة هو أن معظم صور العيش الحياتي فيه هي ( مائية ) أي إن الآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) تنطبق تماما على ديمومة الحياة في الهور واستمرارها إذ لولا الماء لماتت كل ممكنات الديمومة لطبيعة المكان ( الإنسان ، السمك ، الطير ، القصب ) وهي من تكون الصورة الشاملة والحياتية لهذه النقطة من الأرض والتي تفتخر بأنها كانت موطنا أزليا لواحدة من اعرق الحضارات وهي الحضارة السومرية وكذلك فأنها في الافتراض التاريخي وقراءة لقصد الميثولوجيات والقصص فأنها كانت المكان الذي سيح فيه الطوفان وابتدأ منه نوح ع رحلته الإيمانية وقصة أيوب السومري تقترب كثيرا في المطابقة الحكائية والإيمانية مع قصة نبينا أيوب ع المذكورة في القران الكريم ، واستنادا إلى النص التوراتي فان أبينا إبراهيم الخليل ع عاش في أور الكلدان ولد فيها أو بعث منها لايهم المهم انه سكن هذا المكان وتضاريسيا فان أور هي مدينة كانت يوما ما ميناءً ومحطة تجارية للسفن التي كانت فيها سومر تنقل تجارتها عبر الأهوار ومسطحاتها المائية إلى المناطق البعيدة مثل ( دلمون التي هي مملكة البحرين اليوم ، مكان التي هي سلطنة عمان اليوم ، بلاد السند والهند وأفغانستان ) .
وكذلك كان هذا المكان مهدا وحاضنة طبيعة للكثير من المعتقدات والأديان لن طبيعة المكان ومكوناته يشكلان محمية طبيعية تقي المعتقد أو الدين من التعسف والاضطهاد الذي يحسه كما إن فسحة التأمل وجمالية المكان تعطي لتلك الرؤى بهجة التأمل والتعبد والالتجاء كما في الديانة المندائية وبعض الحركات الثورية في العصر العباسي الثاني كالقرامطة والزنج وغيرها .. أذن الماء هو روح طوبغرافية الأهوار والحاضنة الحياتية للموجودات التي رأت في هذه الطوبغرافية المكان الملائم لديمومة وجودها والاستمرار معه .
تغذي مياه دجلة والفرات مناطق الاهوار بكامل حاجتها لتكون بيئة ملائمة لعيش من يريد الاستيطان على هذه الشاكلة إذ يغذي نهر الفرات النازل من الأراضي التركية مرورا بالأرض السورية وحتى دخوله العراق هذه المناطق لحظة اقترابه من مدينة سوق الشيوخ 28 كم شمال مدينة الناصرية لتبدأ مساحة الانغمار من شمال شرق المدينة في ضواحي ناحية العكيكة لتصنع مسميات اهوارية متعددة لأماكن تخترقها اليابسة لمساحات قليلة نشأة عليها بعض الحواضر كما في مدن الجبايش ، الفهود ، الحمار الطار ، الهوير ، المدينة ، الكحلاء ، المشرح وغيرها من مدن محافظات ذي قار والبصرة وميسان حيث تمتد الأهوار في تشكيل ثلاثي بين هذه المحافظات لتلتصق حدودها المائية بأهوار تابعة لدولة جارة للعراق هي إيران لتصل اهوارها إلى منطقة الأحواز وكما يصف الكاتب حسن علي خلف في كتابه ( الأهوار دراسة تاريخية ، ديموغرافية ، طوبغرافية ) والصادر عن دار المرتضى للنشر والتوزيع في بغداد . الصفحة 11 من الكتاب عن سبب تكون الأهوار بالقول :(( إن الحوض الذي يحتله السهل الرسوبي قد انخفض ولا يزال مستمرا بالانخفاض بسبب ثقل العوائق التي تطرها الأنهار وبسبب حركات تكوينية باطنية أكدتها الدراسات الجيولوجية والتي أشارت بوضوح على أن القسم الجنوبي من السهل الرسوبي قد انخفض ولازال ينخفض)).وهكذا يكون المكان قد امتلك كامل الخصوصية ليكون مكانا مائيا فسيحا كما يقول الإغريق : تولد الحياة برمتها في الماء ومنة منها ما تمنحه إلى اليابسة .
على أديم هذه البيئة المائية تشكل سحرا خاصا للطبيعة ورسمت روح المكان مغايرات ومتلاقيات بشكل يعيد للناظر بهجة ما ضاع منه من رؤية سحر الخلق . مساحات من ضوء ازرق تشقهخضرة داكنة لغابات القصب ، مشحايف ناعمة ونحيفة تدفعها مجاديف رغبة الإنسان ليكون منسجما بحب وعاطفة مع كل ما يجود عليه الماء والسماء من سمك وطير فيما يوفر له القصب مستلزمات دون ثمن لتأثيث مهجعه وبناء بيته الذي ظل بذات التشكيل الهندسي الجميل من عهد سلالات سومر وحتى الآن وقد أعجبت تلك المساكن البسيطة والمتكيفة مع حياة الإنسان من سكنة الأهوار كل الرحالة والمكتشفين الذين زاروا المنطقة وعاشوا بها لدهور طويلة ومنهم المستشرقة البريطانية الليدي دواروا والمتوفية عام 1972 والتي جابت نلك المناطق بفضل تخصصها في الديانات القديمة ومنها المندائية والتي كتبت فيها الكثير وتعلمت لغتها وقد سكنت هي أيضا في مناطق الاهوار قرب بيوت المندائيين في الاهوار وتحدثت في هذا بمحاضرة شيقة ألقتها في المعهد الآسيوي في 12 حزيران 1946 وفي وصفها لبيوت الاهوار هذا المقطع المجتزئ من المحاضرة المنشورة في مجلة الجمعية الملكية الاسبوية المعهد ونشرها الكاتب العراقي ثائر صالح في موقعه على شبكة الإنترنيت :(( وكوخ الفقير أكثر بساطة، فهو يبنى بالطريقة نفسها، بواري فوق هيكل لكنه أصغر حجماً وأقل ترتيباً. ولربما يتم تكديس الأغصان والدغل على جوانب الصريفة للوقاية من ريح الشمال الباردة، وعند المدخل تترك كمية من الحلفاء دون ربطها من القمة، فتتلاعب الريش برؤوسها الريشية. والمدخل يواجه الجنوب عادة، وغالباً ما تجد صفوفاً من أقراص الوقود البنية اللون المسطحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم.
تبنى قرى القصب على الأرض، وأحياناً على حافة الماء مباشرة، وعند الوصول إلى قلب الأهوار نجد بيوتاً يقف كل منها على جزيرته الصناعية الخاصة به. في الفصل الجاف، عندما ينخفض منسوب المياه، يوضع أساس من طين وقصب وحصائر القصب على شكل طبقات وتداس كلها بعناية، لحين تكون منصة كبيرة وقوية كفاية لتحمل الصريفة وبعض والمواشي.))تلك البساطة وهذه القناعة ألزمت الإنسان هنا بإتباع نمط حياتي قد يحسبه القادم من غير بيئة الأهوار انه نظاما صارما لكنه بالنسبة لسكان هذه المناطق فسحة من العيش الرغيد والقناعة رغم ضيق اليد والكفاف لكن الموت على جبيشة من قصب تمثل بالنسبة إلى هذا الكائن البسيط الوصول إلى الفردوس بأقصر الطرق .كان الماء بهذا الامتداد الهائل يمثل مستوطنة حنون للكثير من الكائنات عدا البشر فأول المنتمين إليه هو السمك بأنواعه الكثيرة والتي شكلت الغذاء الرئيسي بعد الأرغفة لسكان المنطقة وبعدها يأتي الاعتماد على لحم الطير والدواب وخبز الرز المسمى ( خبز الطاق ) .
وأشهر أنواع السمك والذي هو ذاته تقريبا الموجود في نهري دجلة والفرات :( البني ، الكطان ، الشبوط ، الخشني ، الشلك ، الجري ، الكارب الأحمر ، الحمري ، أبو الزمير ) وهذه الأنواع يتم صيدها بذات أدوات الصيد البدائية منذ أقدم العهود مثل ( الفالة والطاروف والشكافة والسلية ) وغيرها ويتم بطريقتين أما الترصد لها من خلال الوقوف على الحافة الطينية المسماة ( اليشان ) وهي مناطق يابسة على سطح الماء أو صيدها بالقوارب وهي وسيلة النقل الوحيدة في مثل تلك الأمكنة ويطلق عليها جماعيا المشاحيف أو الأبلام وبأنواع متعددة مثل ( الطرادة ، والبرغش والجلبية ، الشختورة ) .. فيما تأثث المكان طيورا قادمة من أمكنة بعيدة في هجرات الأزمنة الدافئة حيث يكون شتاء هذه المناطق دافئا فيما شتاء المناطق التي تأتي منها هذه الطيور باردا وثلجيا كما الطيور القادمة من المناطق الأسكندافية كطائر السنونو الداكن السواد الذي يطلق عليه أسم ( العلوية ) لمعتقد عند أهل الأهوار أن السواد هو صبغة الحزن الدائم على فواجع أهل البيت ــ عليهم السلام ــ لذلك لا يستحب صيد هذا الطائر أو أكله ... وهناك أنواعاً كثيرة من الطيور من تسكن المكان وتمارس فيه طقس العيش بحرية ولذة حيث يكون الماء مسكنا وغابات القصب الكثيف مكانا لوضع البيض والاختباء من بنادق أو شباك الصيف مثل ( فيه أنواع البط ، الخضيري، والبرهان، والحذاف، ودجاج الماء، والزركي، والرخيوي، والكار، والكركي. وأنواع أخرى )..
وهكذا تصبح للمكان روحا مشعة عندما ينسجم مع أشياءه ومناخاته ليكون عالما متميزا بانتماء حميمة العنصر إليه ليشكل وضعا طبيعيا جميلا ولكن التعسف والظلم عندما تجرد هذا المكان من عناصره وأشياءه الذي يودها ويريدها وهو ما يسمى الأبادة أو الإرهاب البيئي وهذا يعني أن ليس الإنسان وحده معرضا للإرهاب بل الطبيعة والأمكنة ذلك عندما نمارس عليها سطوة التغيير دون رغبتها .
لقد كان المكان يتمتع بشعرية هائلة وهو في طيفه التاريخي مستوطنة أبدية لصناعة الفكرة وهنا كان للأسطورة مكان لتذهب في رسم أخيلة القلق البشري ولتخرج من هذه ( الأيشانات ) رقما طينية مفخورة بتنانير الخبز التي هي أفرانا نشوي فيها رغيف الرغبة وكانت هذه الرقم تتحدث من خلال وعي الأسطورة عن وعي المكان وروحه كما في أسطورة الصياد السومري آدابا ، لهذا كانت الأهوار تجسد بمكانها النائي والمميز شعورا متميزا لذاكرة الإنسان ورغم بساطة الحياة وممكناتها غير أنها في منظور السكن الهادئ لمقام البشر يمثل قناعة وحلم يمنحها الله لحشد من الناس لتكون حياتهم هادئة وكذلك موتهم ..